بينما
استطاع الإنسان معرفة وفهم معظم الأسرار المحيطة بعمليات الحياة، مثل التكاثر
والسعي وراء الغذاء والدفاع عن النفس، فإنه ما يزال في براثن الحيرة أمام ظاهرة
يومية منتظمة هي النوم! بل أكثر من ذلك، فإن ظواهر الحياة وعملياتها المختلفة لا
تستغرق من عمر الإنسان ما يستغرقه النوم، إذ ينفق الإنسان ثلث عمره نائماً! والبحث
في أسرار ظاهرة النوم يشغل الإنسان منذ زمن بعيد. وهذه الظاهرة لا تشغل الإنسان
البالغ وحده، ولا تشغل العلماء والباحثين والمفكرين وحدهم، ولكنها واردة حتى قي
أسئلة الصغار حين يستفهمون ببراءة: (لماذا ننام؟!(
حقاً لماذا ننام؟! هل النوم ضرورة حياة، أم أن النوم عادة موروثة من أجداد استناموا إلى هدأة الليل فسكنوا فيه؟! أم أن النوم لازم لتخليص الجسم من: (سموم وشوائب وفضلات) تتجمع فيه نتيجة أنشطة الحياة؟! أم لعله (وظيفة عضوية) من وظائف المخ، الذي يصدر أمراً إلى الأعضاء بالسكون فتسكن؟!
حول هذه الأسئلة وأشباهها يدور البحث في عدد من المراكز العلمية المهتمة بهذه الظاهرة. وبين الحين والآخر، تصدر عن مركز هنا أو هناك بعض النتائج التي تُعد خطوة على الطريق نحو فهم هذا اللغز الكبير. ولا ندري كم من الوقت سيستغرق البحث قبل أن يفلح الإنسان في إماطة اللثام عن سر طال اشتغاله به!
ولكن من المؤكد أنه ما دام يحاول، فلربما يصل إلى الغاية يوماً ما.
والى أن يصل الإنسان إلى (الحل الكامل)، نستطلع بعض (الإضافات) الجديدة، لعلنا نقترب من فهم هذه الظاهرة.
دورة طبيعية:
الثابت بالملاحظة أن أحياء المعمورة على اختلاف طبقاتها، تهجع وتسكن إذا جن الليل، فالطيور تأوي إلى أوكارها. وصغار الحيوانات تختبئ في جحورها.
وتفعل مثل ذلك (الحيوانات الأرقى) فيأوي كل إلى سكنه.
فإذا أشرقت الأرض بنور ربها، وتوارت ظلمة الليل وراء وضح النهار، انتفضت الأحياء من مساكنها، وانبعثت من رقادها في نشاط لتستأنف الحياة من جديد!
وقد دفعت هذه الملاحظة كثيراً من العلماء إلى الاعتقاد بأن هناك (دورة طبيعية)، تحكم نشاط الأحياء على هذا الكوكب. وهذه الدورة الطبيعية مرتبطة بدوران الأرض حول نفسها. أي - بتعبير آخر- بتعاقب الليل والنهار.
ومما يعضد ذلك الاعتقاد، أن التجربة أثبتت أن أنشطة الأجهزة المختلفة في جسم الإنسان تخضع - بدرجة أو بأخرى – لتفاوت منتظم في درجة النشاط، يكاد يتفق مع إيقاع (الدورة الطبيعية) .
فمثلاً، تكون عملية تجديد خلايا الجسم وبناء الجديد منها في أوج نشاطها في الصباح الباكر، كذلك تكون (الغدة النخامية) في قمة نشاطها في الصباح. ونشاط الغدة النخامية يوجه نشاط الغدد الصماء الأخرى في الجسم.
وعلى نقيض ذلك، يهدأ نشاط العمليات الحيوية المختلفة في الجسم، في الهزيع الأول من الليل، فتقل إفرازات المعدة والأمعاء من الإنزيمات الهاضمة، ويقل نشاط غدد العرق، وبينما تكون درجة حرارة الجسم طبيعية في الصباح، فإنها تأخذ في الارتفاع مع تقدم ساعات النهار، بحيث تصل إلى أعلى قمة لها في الليل.
وتعرف هذه الدورة الطبيعية عند الإنسان باسم (الدورة اليوميةcircadian) rhythm). والثابت بالتجربة أن هذه الدورة تنقسم إلى (فترات) نشاط وخمول، تتراوح بين أربع إلى ثمان ساعات، تبعاً لكل جهاز من أجهزة الجسم ومدى النشاط اليومي المطلوب منه.
على أن هذه الدورة اليومية تختلف اختلافاً كبيراً من شخص إلى آخر، كما تختلف عند الإنسان الواحد من وقت لآخر في غضون العام الواحد، كذلك يمكن أن تنعكس دورة النشاط عند من يسهرون الليل وينامون النهار. بحيث تصبح قمة النشاط في الليل، وفترة الهمود في النهار.
يضاف إلى ذلك أن طفل الإنسان حديث الولادة يقضي معظم يومه نائماً، ولا تظهر من وظائف جسمه تلك الدورة اليومية التي تظهر عند الإنسان البالغ، وبعد الشهر الثالث من العمر، يبدأ طفل الإنسان في (اكتساب) نشاط دوري لوظائف الأعضاء.
وهذه الحقائق تجعل من (الدورة الطبيعية) تفسيراً محتملاً لظاهرة النوم، لكن هذه الدورة الطبيعية وحدها لا يمكن أن تكون مسئولة بمفردها عن النوم، ولا بد من وجود أسباب أو عوامل أخرى تؤدي إلى النوم.
الحرمان من النوم:
في مركز لأبحاث النوم تابع لجامعة (لفبره) (Loughborough) (في إنجلترا) قام طبيب يدعى (جيم أورن) بتجربة من شقين في محاولة جديدة لكشف غموض لغز النوم.
في الشق الأول من التجربة قام الطبيب المذكور بدراسة (مراحل النوم) مستعيناً بجهاز (رسام المخ الكهربي) لمعرفة درجات نشاط المخ المختلفة، وشفع ذلك بمتابعة ظواهر فسيولوجية أخرى، تعكس نشاط الأجهزة المختلفة في جسم الإنسان.
وفي الشق الثاني من التجربة، وضع بعض المتطوعين في تجربة فريدة، بحرمانهم من النوم مدة ثلاثة أيام متعاقبة، بهدف معرفة ما إذا كان النوم ضرورياً لأداء الوظائف الطبيعية المختلفة كل يوم، أم أنه عادة لا ضرورة لها. وعلى الرغم من أن مثل هذه التجارب أُجريت من قبل في مراكز أخرى، إلا أن تكرار التجربة قد يكشف عن شيء جديد.
كانت نتائج الشق الأول من التجربة على النحو التالي:
عندما يأوي الإنسان إلى فراشه للنوم، تبدأ عدة ظواهر فسيولوجية في الوقوع، من ذلك أن درجة حرارة الجسم تأخذ في الانخفاض، كما ينخفض معدل إفراز هرمونات (الغدة الكظرية) (الغدة فوق الكلية superarenal gland
والغدة الكظرية واحدة من الغدد الصماء التي تصب إفرازاتها مباشرة في تيار الدم العام. وهي تفرز هرمون (كورتيزون) (وهرمونات أخرى ) .
وفي أول النوم، يخامر الإنسان شعور بأنه (يطفو) أو (ينجرف) في تيار ماء. وبعض الناس يصف ذلك بأنه شعور بخفة وزن الجسم. وتعرف هذه المرحلة باسم (المرحلة الأولى) وتتميز بانخفاض - أحياناً يصحبه اضطراب – في شدة موجات المخ كما تظهر على جهاز (رسام المخ الكهربي) ويعرف اختصاراً بالحروف EEG
وتبدأ (المرحلة الثانية) حين يتغير شكل موجات المخ على جهاز الرسم، ليأخذ طبيعة منتظمة وشكلاً مميزاً، ويبدأ بموجات مرتفعة (طويلة أو عالية) تأخذ في الانخفاض تدريجياً. ويتكرر نمط هذه الموجات (أو الرسوم) كل عدة ثوان. ويمكن إيقاظ النائم بسهولة في هذه المرحلة.
أما (المرحلة الثالثة) فتتميز بانخفاض أكبر في نشاط المخ الكهربي، مع انتظام ضربات القلب بمعدل ستين نبضة في الدقيقة، كذلك يكون التنفس بطيئاً ومنتظماً، كما ينخفض ضغط الدم. وتوصف هذه المرحلة من النوم بأنها (متوسطة العمق) .
و(المرحلة الرابعة) أو مرحلة (النوم الحقيقي)، تتميز بالعمق، بحيث لا ينتبه النائم إلى معظم المؤثرات الخارجية، على الرغم من أن المخ يستقبل جميع المنبهات الخارجية بـ (يقظة)! ومن الصعب إيقاظ النائم في هذه المرحلة، فإذا أجبر على الاستيقاظ فإنه يشعر أن جسمه ثقيل، وقد يصاب بصداع وغثيان، على أن قدرة الجسم على التكيف سرعان ما تعيد الأمور إلى نصابها، فيمر كل شيء بسلام!
وبينما (يغوص) النائم إلى (المرحلة الرابعة) فإنه (يطفو) مرة أخرى إلى مرحلة قريبة من (المرحلة الأولى)، تعرف باسم (مرحلة حركة العين السريعة)، وفي هذه المرحلة تقع الأحلام.
وجميع مراحل النوم المذكورة تكّون ما يسمى (دورة النوم) وتستغرق الدورة الواحدة بين ثمانين إلى مائة وعشرين دقيقة، وتتكرر (دورة النوم) عدداً يتوقف على عدد الساعات التي ينامها الإنسان.
في الشق الثاني من التجربة، حيث حرم بعض المتطوعين من النوم مدة ثلاثة أيام متتالية، اتضح أن الأشخاص موضع التجربة مروا بدورة النشاط اليومية الطبيعية، فأظهروا فترات نشاط وخمول متعاقبة، ولم يتأثر أداء الوظائف الجسمانية بالحرمان من النوم، بينما تأثر النشاط العقلي بدرجة قليلة مع الأعمال التي تتطلب تفكيراً منطقياً وقدراً من الإبداع، أما الأعمال المملة المتكررة، فأظهرت تدهور النشاط العقلي بدرجة كبيرة، وظهر بعض الضعف في أعمال تتطلب مجهوداً عضلياً في اليوم الثالث.
ويبدو أن صغار السن أقدر على احتمال الحرمان من النوم بدرجة تفوق احتمال الكبار. فقد استطاعت فتاة في العشرين من عمرها أن تواصل التجربة في اليوم الثالث إلى نهايته، بينما غلب النوم رجلاً في الأربعين من عمره بمجرد انتهاء التجربة!
وبعد الحرمان من النوم، لوحظ أن الأشخاص موضع التجربة ناموا بين أربع عشرة إلى ست عشرة ساعة، وفي هذه الساعات، أنفقوا وقتاً طويلاً في مرحلة الأحلام (مرحلة حركة العين السريعة) .
وبعد الاستيقاظ من النوم، ظهرت دلائل اضطراب في وظائف أجهزة الجسم المختلفة، ولم تعد هاته الوظائف إلى طبيعتها إلا بعد انقضاء عشرة أيام على انتهاء التجربة!
في تجربة مشابهة أجريت بمعرفة (مركز أبحاث النوم) التابع لجامعة (أوهايو) (في الولايات المتحدة) تم حرمان بعض المتطوعين من النوم لمدة خمسة أيام متتالية. وقد ظهرت على المتطوعين علامات إعياء شديد، وانخفاض حاد في القدرة على التركيز والتفكير، وفي اليوم الخامس كان المتطوعون في حالة عجز شبه كاملة عن الحركة، وانخفضت القدرة على التفكير وصنع القرار إلى أدنى مستوى لها، كما صدرت عنهم (هلوسة) شبيهة بهذيان المحموم!
والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذه التجارب، هي أن النوم ضرورة حياة، وأنه لازم لكي تتمكن الأجهزة المختلفة في الجسم من أداء وظائفها الطبيعية بصورة سليمة، كذلك يتضح أن للأحلام دوراً هاماً في تخليص الجسم من التوتر، وفي (تحرير المخ) من ضغوط الأفكار اليومية المتضاربة، يدل على ذلك أن الذين يحرمون من الأحلام أثناء النوم يعانون من توتر متزايد، وسطحية في التفكير نتيجة العجز عن تكوين صورة عقلية متكاملة لمواقف الحياة المعقدة!
دور المخ:
على أن السؤال الذي يبقى ملحاً هو:
إذا كان النوم ضرورة حياة، فمن أين ينبع، وما علاقته بالمخ؟! والمعروف أن المخ يهيمن على جميع وظائف الجسم بما يحقق التناغم اللازم لحفظ الحياة واستمرارها، وما دام النوم لازماً لاستمرار الحياة على نحو سويّ، فلا بد أن يكون خاضعاً لنشاط المخ.
وهذا الاستنتاج (النظري) يبدو منطقياً ومقبولاً، ولكن إثباته (عملياً) مسألة مختلفة، وما تزال تستعصى على المحاولة، على أن باحثاً أمريكياً، يعمل أستاذاً لعلم وظائف الأعضاء (فسيولوجيا) في جامعة (هارفارد)، قطع خطوة لا بأس بها على طريق فهم العلاقة بين النوم وتأثير المخ.
ففي تجربة قام بها الباحث المذكور، تم حرمان بعض الماعز من النوم لمدة يومين، ومن (السائل المخي) في أدمغة الماعز، قام الباحث بسحب (استخلاص) مقادير صغيرة، ثم حقن تلك المادة في أدمغة بعض الأرانب والفئران فنامت على الفور! وعندما أعيدت التجربة باستخدام مقادير من (السائل المخي) من ماعز أنفق ليلة في النوم، لم تكن للمادة أي تأثير على الأرانب والفئران.
واستخلص الباحث من تلك التجربة أن (السائل المخي) يحتوي على مادة تؤدي إلى النوم، أطلق عليها اسم (عامل النوم (Sleep Factorأو اختصاراً .(Factor S)
وقد أمكن استخلاص مادة مشابهة لعامل النوم من بول الإنسان، وهي موجودة بمقادير ضئيلة للغاية في البول، بحيث تلزم عدة أطنان من البول لاستخراج (ملليجرام واحد) من تلك المادة، وعند حقنها في أدمغة حيوانات التجارب، فإن هذه المادة التي يطلق عليها أيضا اسم (عامل النوم)، أدت إلى نوم الحيوانات نوماً عميقاً لمدة تراوحت بين أربع ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة.
وما يزال (عامل النوم) الذي أمكن استخلاصه من بول الإنسان وتحليل طبيعته الكيميائية تحت الاختبار، ومن غير المعروف إلى الآن ما إذا كان (عامل النوم) الذي يفرز في بول الإنسان ينتجه المخ، أم تنتجه أجهزة أخرى في الجسم!
من جهة أخرى فإن الاتجاه يتزايد نحو قبول دور ما يسمى (التكوين الشبكي) في المخ، في حالة (اليقظة الكاملة) عند الإنسان، و(التكوين الشبكي (Reticular Formation، هو مجموعة من الخلايا العصبية متناثرة في (ساق المخ)، سميت بهذا الاسم لأنها ترتبط بشبكة معقدة من الألياف العصبية مع سائر مناطق المخ أو ما يعرف باسم (المراكز العليا) .
وقد أمكن إثبات أن (التكوين الشبكي) هو المسئول عن حالة اليقظة، ذلك أن قطع اتصالات هذه الشبكة مع باقي مراكز المخ في حيوانات التجارب، أدى إلى نومها بصورة مستمرة، ومن غير المعروف على وجه اليقين، كيف يؤدي نشاط (التكوين الشبكي) إلى إحداث حالة اليقظة عند الإنسان، ولكن من المقبول - على الأقل في الوقت الحالي – التسليم بأنه (المسئول عن اليقظة)، استناداً إلى التجارب التي أجريت على الحيوان.
وبعد، فإن البحث العلمي والطبي في ظاهرة النوم لا يتعارض مع كون النوم من آيات الله - تبارك وتعالى – كما ذكر – سبحانه وتعالى – في محكم التنزيل: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} (الآية 23 من سورة الروم) .
حقاً لماذا ننام؟! هل النوم ضرورة حياة، أم أن النوم عادة موروثة من أجداد استناموا إلى هدأة الليل فسكنوا فيه؟! أم أن النوم لازم لتخليص الجسم من: (سموم وشوائب وفضلات) تتجمع فيه نتيجة أنشطة الحياة؟! أم لعله (وظيفة عضوية) من وظائف المخ، الذي يصدر أمراً إلى الأعضاء بالسكون فتسكن؟!
حول هذه الأسئلة وأشباهها يدور البحث في عدد من المراكز العلمية المهتمة بهذه الظاهرة. وبين الحين والآخر، تصدر عن مركز هنا أو هناك بعض النتائج التي تُعد خطوة على الطريق نحو فهم هذا اللغز الكبير. ولا ندري كم من الوقت سيستغرق البحث قبل أن يفلح الإنسان في إماطة اللثام عن سر طال اشتغاله به!
ولكن من المؤكد أنه ما دام يحاول، فلربما يصل إلى الغاية يوماً ما.
والى أن يصل الإنسان إلى (الحل الكامل)، نستطلع بعض (الإضافات) الجديدة، لعلنا نقترب من فهم هذه الظاهرة.
دورة طبيعية:
الثابت بالملاحظة أن أحياء المعمورة على اختلاف طبقاتها، تهجع وتسكن إذا جن الليل، فالطيور تأوي إلى أوكارها. وصغار الحيوانات تختبئ في جحورها.
وتفعل مثل ذلك (الحيوانات الأرقى) فيأوي كل إلى سكنه.
فإذا أشرقت الأرض بنور ربها، وتوارت ظلمة الليل وراء وضح النهار، انتفضت الأحياء من مساكنها، وانبعثت من رقادها في نشاط لتستأنف الحياة من جديد!
وقد دفعت هذه الملاحظة كثيراً من العلماء إلى الاعتقاد بأن هناك (دورة طبيعية)، تحكم نشاط الأحياء على هذا الكوكب. وهذه الدورة الطبيعية مرتبطة بدوران الأرض حول نفسها. أي - بتعبير آخر- بتعاقب الليل والنهار.
ومما يعضد ذلك الاعتقاد، أن التجربة أثبتت أن أنشطة الأجهزة المختلفة في جسم الإنسان تخضع - بدرجة أو بأخرى – لتفاوت منتظم في درجة النشاط، يكاد يتفق مع إيقاع (الدورة الطبيعية) .
فمثلاً، تكون عملية تجديد خلايا الجسم وبناء الجديد منها في أوج نشاطها في الصباح الباكر، كذلك تكون (الغدة النخامية) في قمة نشاطها في الصباح. ونشاط الغدة النخامية يوجه نشاط الغدد الصماء الأخرى في الجسم.
وعلى نقيض ذلك، يهدأ نشاط العمليات الحيوية المختلفة في الجسم، في الهزيع الأول من الليل، فتقل إفرازات المعدة والأمعاء من الإنزيمات الهاضمة، ويقل نشاط غدد العرق، وبينما تكون درجة حرارة الجسم طبيعية في الصباح، فإنها تأخذ في الارتفاع مع تقدم ساعات النهار، بحيث تصل إلى أعلى قمة لها في الليل.
وتعرف هذه الدورة الطبيعية عند الإنسان باسم (الدورة اليوميةcircadian) rhythm). والثابت بالتجربة أن هذه الدورة تنقسم إلى (فترات) نشاط وخمول، تتراوح بين أربع إلى ثمان ساعات، تبعاً لكل جهاز من أجهزة الجسم ومدى النشاط اليومي المطلوب منه.
على أن هذه الدورة اليومية تختلف اختلافاً كبيراً من شخص إلى آخر، كما تختلف عند الإنسان الواحد من وقت لآخر في غضون العام الواحد، كذلك يمكن أن تنعكس دورة النشاط عند من يسهرون الليل وينامون النهار. بحيث تصبح قمة النشاط في الليل، وفترة الهمود في النهار.
يضاف إلى ذلك أن طفل الإنسان حديث الولادة يقضي معظم يومه نائماً، ولا تظهر من وظائف جسمه تلك الدورة اليومية التي تظهر عند الإنسان البالغ، وبعد الشهر الثالث من العمر، يبدأ طفل الإنسان في (اكتساب) نشاط دوري لوظائف الأعضاء.
وهذه الحقائق تجعل من (الدورة الطبيعية) تفسيراً محتملاً لظاهرة النوم، لكن هذه الدورة الطبيعية وحدها لا يمكن أن تكون مسئولة بمفردها عن النوم، ولا بد من وجود أسباب أو عوامل أخرى تؤدي إلى النوم.
الحرمان من النوم:
في مركز لأبحاث النوم تابع لجامعة (لفبره) (Loughborough) (في إنجلترا) قام طبيب يدعى (جيم أورن) بتجربة من شقين في محاولة جديدة لكشف غموض لغز النوم.
في الشق الأول من التجربة قام الطبيب المذكور بدراسة (مراحل النوم) مستعيناً بجهاز (رسام المخ الكهربي) لمعرفة درجات نشاط المخ المختلفة، وشفع ذلك بمتابعة ظواهر فسيولوجية أخرى، تعكس نشاط الأجهزة المختلفة في جسم الإنسان.
وفي الشق الثاني من التجربة، وضع بعض المتطوعين في تجربة فريدة، بحرمانهم من النوم مدة ثلاثة أيام متعاقبة، بهدف معرفة ما إذا كان النوم ضرورياً لأداء الوظائف الطبيعية المختلفة كل يوم، أم أنه عادة لا ضرورة لها. وعلى الرغم من أن مثل هذه التجارب أُجريت من قبل في مراكز أخرى، إلا أن تكرار التجربة قد يكشف عن شيء جديد.
كانت نتائج الشق الأول من التجربة على النحو التالي:
عندما يأوي الإنسان إلى فراشه للنوم، تبدأ عدة ظواهر فسيولوجية في الوقوع، من ذلك أن درجة حرارة الجسم تأخذ في الانخفاض، كما ينخفض معدل إفراز هرمونات (الغدة الكظرية) (الغدة فوق الكلية superarenal gland
والغدة الكظرية واحدة من الغدد الصماء التي تصب إفرازاتها مباشرة في تيار الدم العام. وهي تفرز هرمون (كورتيزون) (وهرمونات أخرى ) .
وفي أول النوم، يخامر الإنسان شعور بأنه (يطفو) أو (ينجرف) في تيار ماء. وبعض الناس يصف ذلك بأنه شعور بخفة وزن الجسم. وتعرف هذه المرحلة باسم (المرحلة الأولى) وتتميز بانخفاض - أحياناً يصحبه اضطراب – في شدة موجات المخ كما تظهر على جهاز (رسام المخ الكهربي) ويعرف اختصاراً بالحروف EEG
وتبدأ (المرحلة الثانية) حين يتغير شكل موجات المخ على جهاز الرسم، ليأخذ طبيعة منتظمة وشكلاً مميزاً، ويبدأ بموجات مرتفعة (طويلة أو عالية) تأخذ في الانخفاض تدريجياً. ويتكرر نمط هذه الموجات (أو الرسوم) كل عدة ثوان. ويمكن إيقاظ النائم بسهولة في هذه المرحلة.
أما (المرحلة الثالثة) فتتميز بانخفاض أكبر في نشاط المخ الكهربي، مع انتظام ضربات القلب بمعدل ستين نبضة في الدقيقة، كذلك يكون التنفس بطيئاً ومنتظماً، كما ينخفض ضغط الدم. وتوصف هذه المرحلة من النوم بأنها (متوسطة العمق) .
و(المرحلة الرابعة) أو مرحلة (النوم الحقيقي)، تتميز بالعمق، بحيث لا ينتبه النائم إلى معظم المؤثرات الخارجية، على الرغم من أن المخ يستقبل جميع المنبهات الخارجية بـ (يقظة)! ومن الصعب إيقاظ النائم في هذه المرحلة، فإذا أجبر على الاستيقاظ فإنه يشعر أن جسمه ثقيل، وقد يصاب بصداع وغثيان، على أن قدرة الجسم على التكيف سرعان ما تعيد الأمور إلى نصابها، فيمر كل شيء بسلام!
وبينما (يغوص) النائم إلى (المرحلة الرابعة) فإنه (يطفو) مرة أخرى إلى مرحلة قريبة من (المرحلة الأولى)، تعرف باسم (مرحلة حركة العين السريعة)، وفي هذه المرحلة تقع الأحلام.
وجميع مراحل النوم المذكورة تكّون ما يسمى (دورة النوم) وتستغرق الدورة الواحدة بين ثمانين إلى مائة وعشرين دقيقة، وتتكرر (دورة النوم) عدداً يتوقف على عدد الساعات التي ينامها الإنسان.
في الشق الثاني من التجربة، حيث حرم بعض المتطوعين من النوم مدة ثلاثة أيام متتالية، اتضح أن الأشخاص موضع التجربة مروا بدورة النشاط اليومية الطبيعية، فأظهروا فترات نشاط وخمول متعاقبة، ولم يتأثر أداء الوظائف الجسمانية بالحرمان من النوم، بينما تأثر النشاط العقلي بدرجة قليلة مع الأعمال التي تتطلب تفكيراً منطقياً وقدراً من الإبداع، أما الأعمال المملة المتكررة، فأظهرت تدهور النشاط العقلي بدرجة كبيرة، وظهر بعض الضعف في أعمال تتطلب مجهوداً عضلياً في اليوم الثالث.
ويبدو أن صغار السن أقدر على احتمال الحرمان من النوم بدرجة تفوق احتمال الكبار. فقد استطاعت فتاة في العشرين من عمرها أن تواصل التجربة في اليوم الثالث إلى نهايته، بينما غلب النوم رجلاً في الأربعين من عمره بمجرد انتهاء التجربة!
وبعد الحرمان من النوم، لوحظ أن الأشخاص موضع التجربة ناموا بين أربع عشرة إلى ست عشرة ساعة، وفي هذه الساعات، أنفقوا وقتاً طويلاً في مرحلة الأحلام (مرحلة حركة العين السريعة) .
وبعد الاستيقاظ من النوم، ظهرت دلائل اضطراب في وظائف أجهزة الجسم المختلفة، ولم تعد هاته الوظائف إلى طبيعتها إلا بعد انقضاء عشرة أيام على انتهاء التجربة!
في تجربة مشابهة أجريت بمعرفة (مركز أبحاث النوم) التابع لجامعة (أوهايو) (في الولايات المتحدة) تم حرمان بعض المتطوعين من النوم لمدة خمسة أيام متتالية. وقد ظهرت على المتطوعين علامات إعياء شديد، وانخفاض حاد في القدرة على التركيز والتفكير، وفي اليوم الخامس كان المتطوعون في حالة عجز شبه كاملة عن الحركة، وانخفضت القدرة على التفكير وصنع القرار إلى أدنى مستوى لها، كما صدرت عنهم (هلوسة) شبيهة بهذيان المحموم!
والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذه التجارب، هي أن النوم ضرورة حياة، وأنه لازم لكي تتمكن الأجهزة المختلفة في الجسم من أداء وظائفها الطبيعية بصورة سليمة، كذلك يتضح أن للأحلام دوراً هاماً في تخليص الجسم من التوتر، وفي (تحرير المخ) من ضغوط الأفكار اليومية المتضاربة، يدل على ذلك أن الذين يحرمون من الأحلام أثناء النوم يعانون من توتر متزايد، وسطحية في التفكير نتيجة العجز عن تكوين صورة عقلية متكاملة لمواقف الحياة المعقدة!
دور المخ:
على أن السؤال الذي يبقى ملحاً هو:
إذا كان النوم ضرورة حياة، فمن أين ينبع، وما علاقته بالمخ؟! والمعروف أن المخ يهيمن على جميع وظائف الجسم بما يحقق التناغم اللازم لحفظ الحياة واستمرارها، وما دام النوم لازماً لاستمرار الحياة على نحو سويّ، فلا بد أن يكون خاضعاً لنشاط المخ.
وهذا الاستنتاج (النظري) يبدو منطقياً ومقبولاً، ولكن إثباته (عملياً) مسألة مختلفة، وما تزال تستعصى على المحاولة، على أن باحثاً أمريكياً، يعمل أستاذاً لعلم وظائف الأعضاء (فسيولوجيا) في جامعة (هارفارد)، قطع خطوة لا بأس بها على طريق فهم العلاقة بين النوم وتأثير المخ.
ففي تجربة قام بها الباحث المذكور، تم حرمان بعض الماعز من النوم لمدة يومين، ومن (السائل المخي) في أدمغة الماعز، قام الباحث بسحب (استخلاص) مقادير صغيرة، ثم حقن تلك المادة في أدمغة بعض الأرانب والفئران فنامت على الفور! وعندما أعيدت التجربة باستخدام مقادير من (السائل المخي) من ماعز أنفق ليلة في النوم، لم تكن للمادة أي تأثير على الأرانب والفئران.
واستخلص الباحث من تلك التجربة أن (السائل المخي) يحتوي على مادة تؤدي إلى النوم، أطلق عليها اسم (عامل النوم (Sleep Factorأو اختصاراً .(Factor S)
وقد أمكن استخلاص مادة مشابهة لعامل النوم من بول الإنسان، وهي موجودة بمقادير ضئيلة للغاية في البول، بحيث تلزم عدة أطنان من البول لاستخراج (ملليجرام واحد) من تلك المادة، وعند حقنها في أدمغة حيوانات التجارب، فإن هذه المادة التي يطلق عليها أيضا اسم (عامل النوم)، أدت إلى نوم الحيوانات نوماً عميقاً لمدة تراوحت بين أربع ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة.
وما يزال (عامل النوم) الذي أمكن استخلاصه من بول الإنسان وتحليل طبيعته الكيميائية تحت الاختبار، ومن غير المعروف إلى الآن ما إذا كان (عامل النوم) الذي يفرز في بول الإنسان ينتجه المخ، أم تنتجه أجهزة أخرى في الجسم!
من جهة أخرى فإن الاتجاه يتزايد نحو قبول دور ما يسمى (التكوين الشبكي) في المخ، في حالة (اليقظة الكاملة) عند الإنسان، و(التكوين الشبكي (Reticular Formation، هو مجموعة من الخلايا العصبية متناثرة في (ساق المخ)، سميت بهذا الاسم لأنها ترتبط بشبكة معقدة من الألياف العصبية مع سائر مناطق المخ أو ما يعرف باسم (المراكز العليا) .
وقد أمكن إثبات أن (التكوين الشبكي) هو المسئول عن حالة اليقظة، ذلك أن قطع اتصالات هذه الشبكة مع باقي مراكز المخ في حيوانات التجارب، أدى إلى نومها بصورة مستمرة، ومن غير المعروف على وجه اليقين، كيف يؤدي نشاط (التكوين الشبكي) إلى إحداث حالة اليقظة عند الإنسان، ولكن من المقبول - على الأقل في الوقت الحالي – التسليم بأنه (المسئول عن اليقظة)، استناداً إلى التجارب التي أجريت على الحيوان.
وبعد، فإن البحث العلمي والطبي في ظاهرة النوم لا يتعارض مع كون النوم من آيات الله - تبارك وتعالى – كما ذكر – سبحانه وتعالى – في محكم التنزيل: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} (الآية 23 من سورة الروم) .
المصدر: مجلة الإعجاز العلمي الصادرة عن الهيئة العالمية للاعجار العلمي للقرآن والسنة/ العدد 18 – جمادي الأول 1425 هـ .